ما وراء الكواليس: قوة علم الأعصاب في صنع القرار
المنطق أمر حتمي، لكن العواطف والتحيزات والمعلومات المعروضة بشكل مناسب لها نفس القدر من الأهمية. بقلم أشواني سينغلاAshwani Singla.
هل تساءلت يوماً عما يدور في دماغك عندما تقرر؟ لماذا تمد يدك إلى قطعة الشوكولاتة تلك بدلاً من التفاحة الموجودة بجانبها مباشرةً؟ لماذا لا يمكنك التوقف عن دندنة بعض الأغاني التجارية؟ الجواب بسيط للغاية - إنه دماغنا المذهل الذي يلعب دوره! إن كل قرار نتخذه، بدءاً من اختيار ما نتناوله على العشاء، أو أي كمبيوتر محمول نشتريه، أو أين نذهب لقضاء عطلة، أو أي شريك عمل نتعامل معه، هناك علم أعصاب مذهل وراء ذلك - تفاعل معقد بين مراكز الدماغ المنطقية والعاطفية.
في الواقع، وُجد أن العوامل الإدراكية والعاطفية تؤثر على سلوك مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي في نشر المعلومات، حتى في حالات الأزمات. وقد وجدت الأبحاث الحديثة أن هذه العوامل تعمل مجتمعةً في التواصل أثناء الأزمات، حيث تحفز الإشارات العاطفية الإيجابية على نشر المعلومات بشكل أكثر فعالية من المشاعر السلبية أو الإشارات المحايدة. وإذا نظرنا إلى هذا الأمر من منظور العلاقات العامة، فإن هذه الرؤية تسلط الضوء على قيمة دمج العناصر العاطفية الإيجابية لتعزيز وصول الرسالة والتفاعل معها، خاصةً أثناء تطوير استراتيجيات التواصل لسيناريوهات المخاطر التي تتعرض لها العلامة التجارية أو السمعة الشخصية.
لذلك، من خلال فهم مناطق الدماغ الرئيسية والتحيزات الإدراكية، يمكننا تعزيز تقنيات الإقناع للتأثير على الخيارات.
الدماغ في صميم عملية اتخاذ القرار
لا يزال الدّماغ البشري أحد أعظم الألغاز التي عرفها الإنسان؛ فالكيفيّة التي تجعلنا نشعر أو نفكر أو نعمل أو نعالج التّجارب، هي أمرٌ لم تتمكّن أكثر العقول عبقريّةً من فك شفرته حتّى الآن. ولكن ما نعرفه هو أنّ كلّ قرار، مهما كانت أهميّته، هو نتيجةٌ لتفاعلٍ معقّدٍ بين أجزاءٍ مختلفةٍ من الدّماغ.
فعلى سبيل المثال، تعمل قشرة الفص الجبهي على تسهيل التفكير المنطقي وتقييم الخيارات المختلفة. وغالباً ما يقوم قادة الشركات بإشراك هذه المنطقة من الدماغ أثناء اتخاذ قرارات عالية المخاطر بشأن الأهداف التنظيمية، أو استراتيجيات التواصل، أو الاستجابة للقضايا الاجتماعية والسياسية التي يمكن أن تؤثر على سمعة الشركة. وتتولى اللوزة الدماغية التعامل مع المشاعر مثل السعادة والألم والإثارة والقلق وغيرها. وعندما تُدخل الجهاز العصبي الحوفي في هذا المزيج، وهي المنطقة التي تتحكم في التحفيز والرغبة، ستحصل على قرارات مدروسة بعناية.
وبالتالي، تنطوي عملية اتخاذ القرار على أكثر من كونها مجرد موازنة بين الإيجابيات والسلبيات، فهي تتطلب الموازنة بين التفكير العقلاني القائم على الحقائق والعواطف والمشاعر وحتى التجارب السابقة.
وفي عالم الأعمال اليوم الذي يتسم بالديناميكية العالية، يقع الأفراد - الموظفين والعملاء والشركاء والمجتمع الأوسع نطاقاً - في قلب نمو أي مؤسسة ونجاحها. حيث تُظهر دراسة لمبادرة كورن فِرِيKorn Ferry/ مبادرة هارتونWhartonلعلم الأعصاب لعام 2022 أن قادة الأعمال يتجهون إلى علم الأعصاب لتعزيز مرونة فرقهم وإنتاجيتها. كما تشير الأبحاث إلى أن التزامن الفسيولوجي، خاصةً من خلال مزامنة معدل ضربات القلب لأعضاء الفريق، يمكن أن يعزز الشعور بالوحدة والتفاهم وزيادة حل المشكلات، مما يؤدي إلى العمل بشكل جماعي نحو رؤية مشتركة.
وعلاوة على ذلك، يمكن للشركات التي تجمع بين الرؤى أو البيانات القائمة على السلوكيات والإبداع والتفكير الاستراتيجي لتطوير استراتيجيات التسويق أو العلاقات العامة أن تتمتع بنتائج أفضل.
ومن المثير للاهتمام ما توصل إليه بحث أُجري مؤخراً في المملكة المتحدة من اعتقاد 84% من مديري التسويق في المملكة المتحدة أن أبحاث علم الأعصاب مفيدة أثناء التخطيط للحملات. ومع ذلك، هناك 24% فقط من مديري التسويق يستخدمون علم الأعصاب بالفعل، على الرغم من معرفتهم بالمزايا المحتملة التي يوفرها هذا العلم.
التأثير على الخيارات من خلال الانحيازات المعرفية
يسمح فهم هذه العمليات الذهنية للشركات بالاستفادة من التحيزات الإدراكية - الأنماط المنهجية التي تؤثر على حكمنا واتخاذنا للقرارات - للتأثير على الخيارات. قد تظن أنك عقلاني تماماً في الطريقة التي تتعامل بها مع أي قرار، ولكن دماغك مصمّم بشكل فريد لاتخاذ اختصارات ذهنية. على سبيل المثال، غالباً ما نقع في فخ الخوف من الخسارة (FOMO)، حيث يبدو ألم خسارة شيء ما أكثر أهمية من التشويق في كسب شيء مساوٍ في القيمة. وهذا هو السبب في أن معظم استراتيجيات التسويق، مثل العروض محدودة المدة، وغيرها، تعمل كعامل جذب رئيسي للحشود.
ثم، هناك التحيز الراسخ الذي يقودنا إلى الاعتماد بشكل كبير على أول معلومة نصادفها. وسواء كان السعر المبدئي الذي يجعل الخصم جذاباً (تسعير شركة باتا)، أو نقطة الضعف الوحيدة التي يعالجها الحل (مثل عرض شركة هَتش للاتصالاتHutch"أينما ذهبت تتبعك شبكتنا")، فإن ذلك هو ما يدفعنا إلى اتخاذ القرار. ويعتبر الترسيخ أحد الأسباب التي تجعل الشركات تعمل بجد للتحكم في الانطباع الأول.
أما الأداة الأخرى، وهي الأداة الأقوى في التأثير على الاختيارات، فهيالمشاركة العاطفية- خاصةً في شكل سرد القصص والتجارب الحسية. إن القصص هي جوهر ثقافتنا وتقاليدنا في جميع أنحاء العالم. وقد ضمنت لنا انتقال إيديولوجياتنا ومعتقداتنا وفلسفاتنا من جيل إلى آخر، حيث تعمل على مشاركة المشاعر من خلال السرد القصصي الذي يجعل الرسائل أكثر إقناعاً وتعلقاً في الذاكرة. وهذا هو السبب في أن العلامات التجارية التي تنجح في التفاعل مع عملائها على المستوى العاطفي والحسي غالباً ما تتمتع بولاء أعمق ونتائج أفضل.
تطبيق علم الأعصاب في سيناريوهات العالم الحقيقي
تُعد حركة "غرف الغداء الأكثر ذكاءً" (SLM) التي أطلقتها جامعة كورنيل في عام 2009 بمثابة دراسة حالة مثالية لفهم كيفية عمل هذه المبادئ في الحياة الواقعية. أراد الباحثون تشجيع عادات الأكل الصحية في المدارس. وبدلاً من الاعتماد فقط على التعليم أو المنطق، قرروا تغيير البيئة والرسائل بطرق خفية لكنها قوية. فمن خلال إنشاء إشارات بيئية تتمثل ببساطة في وضع الفاكهة على مستوى العين، جعلوا الخيارات الصحية أكثر وضوحاً وإغراءً. قدموا دليلاً اجتماعياً من خلال تسليط الضوء على صور الطلاب الذين يختارون الأطعمة الصحية، وبالتالي استخدام تأثير الأقران لإضفاء الطابع الطبيعي على هذه الخيارات وجعل العروض أكثر إغراءً. كما استخدموا أيضاً تقنيات التأطير مثل إضافة ملصقات ممتعة مثل "سلطة رانش الرائعة" التي أعطت العناصر الصحية جاذبية إضافية.
وكانت النتائج النهائية مبهرة للغاية مع زيادة هائلة بنسبة 29% في استهلاك الفاكهة و20% في استهلاك الخضروات!
تطبيق علم الأعصاب في سيناريوهات العالم الحقيقي
تُعد مبادرة "غرف الغداء الأكثر ذكاءً" (SLM) التي أطلقتها جامعة كورنيل في عام 2009 بمثابة دراسة حالة مثالية لفهم كيفية عمل هذه المبادئ في الحياة الواقعية. أراد الباحثون تشجيع عادات الأكل الصحية في المدارس. وبدلاً من الاعتماد فقط على التعليم أو المنطق، قرروا تغيير البيئة والرسائل بطرق خفية لكنها قوية. فمن خلال إنشاء إشارات بيئية تتمثل ببساطة في وضع الفاكهة على مستوى العين، جعلوا الخيارات الصحية أكثر وضوحاً وإغراءً. قدموا دليلاً اجتماعياً من خلال تسليط الضوء على صور الطلاب الذين يختارون الأطعمة الصحية، وبالتالي استخدام تأثير الأقران لإضفاء الطابع الطبيعي على هذه الخيارات وجعل العروض أكثر إغراءً. كما استخدموا أيضًا تقنيات التأطير كإضافة ملصقات ممتعة مثل "سلطة رانش الرائعة" التي أعطت العناصر الصحية جاذبية إضافية.
وكانت النتائج النهائية مبهرة للغاية مع زيادة هائلة بنسبة 29% في استهلاك الفاكهة و20% في استهلاك الخضروات!
تقدم الرؤى المستقاة من دراسة مبادرة كورن فيري/ مبادرة هارتون لعلم الأعصاب 2022 المذكورة سابقاً مثالاً آخر رائعاً يعمل بشكل جيد في عالم الشركات، خاصة في تأسيس ثقافة صحية ومتماسكة وشاملة في مكان العمل. على سبيل المثال، يمكن أن يؤدي تنفيذ تمارين المجموعات الصغيرة التي تشجع على التواصل البصري أو الامتنان المشترك أو المناقشات التعاونية إلى زيادة مستوى التناغم، مما يؤدي إلى زيادة تفاعل وفعالية فرق العمل.
هذه بعض الأمثلة الرائعة لفهم كيفية تحسين عملية اتخاذ القرار في الدماغ لاستراتيجيات العمل الداخلية والخارجية على حد سواء. وفي مجال العلاقات العامة وإدارة السمعة، غالباً ما يتم تطبيق تقنيات مماثلة مدعومة بعلم الأعصاب لتحديد وتشكيل الإدراك العام. فبالإضافة إلى الرسالة نفسها، تزيد الطريقة التي يتلقى بها الناس تلك الرسالة ويفكّون شفرتها من قدرتها على الإقناع. وسواء كان الأمر يتعلق بتغيير السرد العام حول العلامة التجارية أو الفرد، أو أثناء تطوير مبادرات التنوع والمساواة والشمول، أو بناء الثقة من خلال المبادرات الاجتماعية والاقتصادية، تُستخدم هذه الأدوات لتلقى صدى لدى جماهير متنوعة.
الآثار المترتبة على المشهد المؤسسي
بالنسبة لقادة الأعمال، لا سيما في المجالات المتعلقة بالعلاقات العامة والاتصالات في الأزمات وإدارة مخاطر السمعة وما شابه، توفر الدروس المستفادة من علم الأعصاب والتحيزات الإدراكية خارطة طريق مهمة لتصميم استراتيجيات تواصل أكثر فعالية. مع إمكانية تطبيق نفس المبادئ التي تؤثر على خيارات الطلاب في غرفة الغداء على مبادرات الشركات الأوسع نطاقاً.
وفي إطار إدارة مخاطر السمعة، يُعتبر مبدأ تفادي الخسارة وثيق الصلة بإدارة سمعة الشركات. ويمكن أن يكون للصحافة السلبية، حتى لو كانت منمقة، أثراً غير متناسق على التصور العام. فمن خلال السيطرة على السرد في وقت مبكر ومن خلال الاستفادة من التحيز الراسخ، يمكن لمحترفي العلاقات العامة التخفيف من الأضرار المحتملة وتعزيز صورة أكثر إيجابية.
ويمكن الاستفادة من المشاعر التي تعالجها اللّوزة الدماغية، والرغبات التي يتحكم فيها الجهاز الحوفي أثناء تطوير استراتيجية سمعة العلامة التجارية، وبناء حملات أكثر إقناعاً للعلامة التجارية. كمثال التسويق الحسي الذي يستغل العواطف مباشرةً من خلال صياغة بيئات جذابة لا تُنسى. وفي دراسة أجرتها شركةMood Mediaفي عام 2019، شارك 90% من العملاء قولهم إنهم سيعودون إلى متجر بيع بالتجزئة إذا جعلت الموسيقى والصور والرائحة زيارتهم الأولى ممتعة. يسلط ذلك الضوء على مدى تأثير الأجواء المصاغة بعناية - ليس فقط في الأماكن التقليدية ولكن أيضاً عبر الإنترنت.
لقد وجد المسوقون الرقميون طرقاً لإضفاء الحيوية على هذا النهج الحسي من خلال خلق تجارب تفاعلية شاملة للعملاء باستخدام التقنيات المتقدمة مثل الواقع المعزز/ الافتراضي (AR/VR) والذكاء الاصطناعي وما إلى ذلك، حيث يمكن للعملاء "تجربة" المنتجات افتراضياً، والتفاعل مع العناصر أو إنشاء إعلانات غنية بالحواس تساعد الناس على الشعور بعلاقة شخصية أقوى. علاوة على ذلك، يمكن أن يؤدي ربط المنتج بقضايا اجتماعية واقتصادية أوسع - مثل الاستدامة أو الشمولية أو المساواة بين الجنسين - إلى زيادة ولاء المستهلكين وتعزيز مشاركة أعمق.
لذلك، في المرة القادمة التي تحتاج فيها إلى التأثير على قرار ما، تذكر - رغم أهمية المنطق، إلا أن العواطف والتحيزات والمعلومات المقدمة بشكل مناسب تلعب دوراً بالغ الأهمية أيضاً. فمخطط استراتيجية السمعة المؤسسية الناجحة لا يعتمد فقط على ما تقوله، بل كيفية قولك له. والأهم من ذلك، كيف تؤثّر في شعور الناس. سواء كنت تعمل في مجال التسويق أو القيادة أو تحاول تعزيز بيئة عمل شاملة، يمكن أن يساعدك تطبيق هذه الأفكار على الإبحار في المشهد الاجتماعي والاقتصادي المعقد والخروج منه أكثر قوةً وتعاطفاً وابتكاراً.
المؤلف أشواني سينغلاAshwani Singla
أشواني هو الشريك الإداري المؤسس لشركة أسترمAstrum، استشارات السمعة، وهي أول شركة استشارية متخصصة في إدارة السمعة في الهند تستخدم علم الإقناع لفهم وتشكيل الرأي العام بشكل أخلاقي. تقدم شركة أسترم حلول اتصالات استراتيجية متعددة التخصصات قائمة على الأبحاث للحفاظ على السمعة وحمايتها وترخيص الشركات للعمل.
ترجمة وتدقيق صَبَا إبراهيم سعيد
تحذير واجب.
يرجى التواصل لطلب إذن الاستخدام:
info@ipra-ar.org
اخر المقالات








اخر الاخبار







