براغماتيّةٌ وخاليةٌ من الأيديولوجيّات وجسرٌ إلى الجّنوب العالمي: السّرديّة الجّديدة لمنطقة الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا بقيادة تأثير الأعمال التّجاريّة بين الشّركات
منطقة الخليج العربيّ تستفيد من قوّة التّأثير من خلال الأصوات الموثوقة والواثقة لقادة الرّأي.
بقلم أشرف الشكعة
شهدت السّنوات الماضية قيام ممارسي العلاقات العامّة بإيصال الرّؤية الجّديدة لمنطقة الشّرق الأوسط في الأسواق العالميّة. فقد تمّ إطلاق العديد من الحملات الّتي تعرض الرّؤية طويلة الأمد والتّقدّم الانتقالي والتحوّلي الّذي تهدف حكومات المنطقة إلى تحقيقه. كما هدفت العديد من هذه الحملات، عن غير قصدٍ في كثيرٍ من الأحيان، إلى تبديد المفاهيم الخاطئة السّائدة عن العالم العربي.
ولكن هل تمكّنت وسائل الإعلام المكتسبة - أو حتّى تكتيكات الإعلانات المكتسبة - من تحقيق أهدافها؟ يجادل الكثيرون بأنّ نجاحها لم يكن جوهريّاً أبداً. وهناك سببان لذلك: الأوّل هو نهجها التّقليدي في التّواصل، والثّاني هو الفهم السّطحيّ لما تهدف هذه الحملات " الجذّابة" اللّامعة إلى معالجته فعليّاً أو مدى ملاءمتها للأسواق والجّماهير المستهدفة.
كما وقعت بعض هذه الحملات أيضاً في فخّ تعزيز المفاهيم النّمطيّة وترسيخ مقولة "الثّروة النّفطيّة العربيّة" الّتي تشتري بها الدّول الغربيّة أصولاً ثمينة. ففي نهاية المطاف، لم تكن حملات التّضليل حول العالم العربيّ عرضيّةً أبداً. فقد كانت دوافعها سياسيّةً في المقام الأوّل، ومدفوعةً بأيديولوجيّاتٍ مستشرقةٍ تروّج لها "النّخب" والدّوائر الفكريّة.
وعلى الرّغم من ذلك، فقد ركّزت منطقة الخليج على الحفاظ على موقفٍ براغماتيٍّ خالٍ من الأيديولوجيا. ويمكن ربط ذلك، كما يمكن القول، بانهيار العديد من المشاريع السّياسيّة القوميّة العربيّة، خاصّةً بعد الرّبيع العربي، وتضافر الجّهود لتعزيز الهويّة الوطنيّة.
نهجٌ معتدلٌ إلى متوسّط
وفي غياب فهمٍ حقيقيٍّ للسّياق أو السّوق أو الجّمهور، اتّضح أنّ معظم حملات العلاقات العامّة العالميّة من منطقة الخليج، في الآونة الأخيرة، كانت خفيفةً إلى متوسّطة التّأثير.
فجميعها تعزف على نفس الوتر، مع نفس الرّواية عن الاقتصادات الإقليميّة النّاشئة الّتي لا تقتصر على كونها اقتصاداتً منتجةً للوقود الأحفوريّ فحسب، بل مراكز اقتصاديّة ذات قوّةٍ ناعمةٍ مفيدةٍ على مسارٍ سريعٍ نحو التّنويع الاقتصاديّ وقطاع الطّاقة.
أحدثت هذه الحملات في بعض المجالات، مثل الطّيران، تأثيراً كبيراً، وهو ما يتجلّى في كيفيّة قيام شركات الطّيران الرّائدة مثل طيران الإمارات والخطوط الجويّة القطريّة بإعادة تعريف معايير الصّناعة. ومع ذلك، في بعض المجالات الأخرى - على سبيل المثال، التحوّل في مجال الطّاقة وتغيّر المناخ - كان التّأثير أقلّ من مثاليٍّ وأتى بنتائجٍ عكسيّةٍ في كثيرٍ من الأحيان.
وفيما يتعلّق بالعلامات التّجاريّة للبلدان والتّسويق للوجهات السّياحيّة، شهدنا جهوداً حثيثةً في وسائل الإعلام الغربيّة لتشويه سمعة استضافة قطر لكأس العالم لكرة القدم 2022، الّذي اتّضح أنّه أفضل حدثٍ رياضيٍّ عالميٍّ منذ سنوات.
إذاً كيف يمكن لصناعة الاتّصالات أن تزيد من تأثيرها في تقديم روايةٍ جديدةٍ للمنطقة في عصر ما بعد العولمة؟
الطّبيعة المتغيّرة للنّفوذ
اليوم، هناك تركيزٌ متزايدٌ من قبل المنطقة - الحكومات والقطاع الخاصّ على حدٍّ سواء - على تعزيز نفوذها في المراكز الحضريّة النّاشئة في أفريقيا. وتتصدّر الصّين والهند الآن قائمة اقتصادات مجموعة العشرين من بين الدّول الّتي تتطلّع إلى ذلك.
وقد أدّت ثلاثة عوامل إلى ذلك: الأوّل هو ارتفاع النّفوذ الاقتصاديّ والجيوسياسيّ للمملكة العربيّة السّعوديّة والإمارات العربيّة المتّحدة وقطر. فبعد أن بقيت هذه الدّول في ظلال ممرّات القوّة العالميّة لفترةٍ طويلة، أكّدت أنّ أصواتها مهمّةٌ جدّاً عندما يتعلّق الأمر بالعالم العربي. كما تؤكّد هذه الدّول، مع حلفاءٍ موثوقين في الشّرق والغرب، على دورها في دفع عجلة التّحوّل في مجتمعات الجّنوب العالمي.
أمّا السّبب الثّاني فهو الملل والإرهاق النّاجم عن التّغطية الإعلاميّة الغربيّة الكسولة وغير الدّقيقة أو المتحيّزة للمنطقة. وهذا لا يقلّل بأيّ حالٍ من الأحوال من دور الصّحافة في تحدّي الوضع الرّاهن، ولا يمكن إنكار أنّ الصّحافة الرّائعة عن المنطقة كانت ولا تزال موجودة.
أمّا العامل الثّالث فهو أنّ الشّباب الّذين يزيد عددهم عن مئتي مليون شابٍّ وشابّةٍ في منطقة الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا، والّذين يشكّلون حوالي ستّين في المئة من السّكان، لديهم رؤيتهم الخاصّة للعالم. فهم على درايةٍ بالتّواصل الاجتماعي، ويشعرون بخيبة أملٍ من التّهاون السّياسيّ غير المسؤول ودوّامة الصّراع الدّائم في أجزاءٍ كثيرةٍ من العالم العربي.
تحوّلٌ غير مسبوق
إنّ ما ترويه المنطقة للعالم الآن هو قصّة تحوّلٍ غير مسبوق، وهو تحوّلٌ نجحت دبي - ودولة الإمارات العربيّة المتّحدة - في إظهاره منذ سنواتٍ عديدةٍ من خلال براهين مقنعةٍ تركّز على التّنويع الاقتصاديّ وقطاع الطّاقة، وبلغ تأثيره ذروته مؤخّراً مع الاستضافة النّاجحة لمؤتمر الأطراف الثّامن والعشرين. لقد تمّ تحقيق الغرض الأساسيّ من "قصّة دبي" - وهو تمييز المدينة باعتبارها "منارة الأمل" في منطقةٍ ترتبط عادةً بالصّراعات والنّزاعات.
واليوم، هناك المزيد لتقوله دول مجلس التّعاون الخليجي للعالم. "قابليّة العيش" في مدن المملكة العربيّة السّعوديّة؛ وتزايد الفخر العربيّ بعد الاستضافة النّاجحة لكأس العالم لكرة القدم في قطر ومعرض إكسبو في الإمارات العربيّة المتّحدة؛ والقوّة الجّاذبة لمبادرة مستقبل الاستثمار في المملكة العربيّة السّعوديّة، حيث أعلن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، في نسختها الأوّلى في عام 2017، أن "أوروبا الجّديدة هنا".
مع استعداد المملكة العربيّة السّعوديّة لاستضافة معرض إكسبو 2030 وكأس العالم لكرة القدم 2034، ستظلّ المملكة ومنطقة الخليج العربيّ تحت الأضواء العالميّة خلال العقد القادم وما بعده.
وعلاوةً على ذلك، في كلّ مجال - سواءً كان مجال العمل المناخيّ، أو التحوّل في مجال الطّاقة، أو التّكنولوجيا، أو الرّعاية الصّحيّة، أو التّجارة، أو السّياحة، أو التّعليم، أو التّصنيع - هناك سرديّةٌ جديدةٌ يتمّ بناؤها حول الاعتماد على الذّات والتّكنولوجيا الرّقميّة.
ولسرد هذه القصّة الجّديدة، تتطلّع الشّركات والحكومات في منطقة الخليج إلى ما هو أبعد من الطّرق التّقليديّة للعلاقات العامّة. لذا تذكّر أنّ مقالاً جيّداً على موقع لينكد يلقى إقبالاً من القرّاء أكثر بكثير وأوثق صلةٍ بالموضوع من مقالات الرّأي في العديد من وسائل الإعلام في القرن العشرين.
الاستفادة من قوّة التّأثير
تستفيد منطقة الخليج اليوم من قوّة التّأثير - وهو السّبب الحقيقيّ وراء نشأة العلاقات العامّة كصناعة - من خلال الأصوات الواعية والواثقة لقادة الرّأي الّذين يتمتّعون بالمصداقيّة والمعرفة والثّقة.
وتتمتّع المنطقة بالفعل بأعلى نسبة استخدامٍ للتّأثير بين الشّركات في العالم، كما جاء في تقرير أوجلفي "التّأثير على الأعمال: الصّعود العالميّ للتّسويق المؤثّر بين الشّركات على مستوى العالم". وبالمقارنة مع حوالي ثلاثة أرباع المشاركين في الأسواق الدّولية الّتي شملها الاستطلاع قالوا إنّهم يستخدمون شكلاً من أشكال التّأثير بين الشّركات (B2B)، فقد بلغت النسبة 100% في المملكة العربيّة السّعوديّة و96% في الإمارات العربيّة المتّحدة.
وينظرون إلى التّأثير بين الشّركات على أنّها مساراتٌ فعّالةٌ لبناء تصوّر العلامة التّجاريّة والمشاعر، وفي نهاية المطاف، قرارات الشّراء. وهي القناة المفضّلة للحكومات لإيصال أولويّاتها - مثل التّنويع الاقتصادي، وريادة الأعمال، التّكنولوجيا الرّقميّة ، والعمل المناخيّ، والتّراث، والثّقافة، وغير ذلك.
صعود المؤثّرين المحلّيين
ومع ذلك، يعتمد نجاح التّأثير بين الشّركات على "عنصرٍ سرّي" - وهو العنصر الّذي قدّمه ليونيل ميسي في المملكة العربيّة السّعوديّة وستيف هارفي في أبو ظبي - وهو فهم أنّ الثّقافة المحلّية لا تتعارض مع القيم العالميّة.
واليوم، يسخّر المؤثّرون المحلّيون علاماتهم التّجاريّة الشّخصية القويّة، ويواصلون بناء السّلطة والمصداقيّة في مجالاتهم - مدفوعين بمعرفتهم "بالمجال".
ويرجع نجاحهم إلى فهمهم البديهيّ لتعقيدات العالم العربي، ممّا مكّنهم من إقامة علاقاتٍ حقيقيّةٍ، خاصّة من خلال اللّغة العربيّة، والتّفاعل بعمقٍ مع التّفضيلات الثّقافيّة المتنوّعة في جميع أنحاء المنطقة.
أمّا بالنّسبة لأولئك الّذين فاتهم هذا الحدث، فالأوان لم يفت بعد لمراجعة استراتيجيّتهم في مجال التّسويق التّجاريّ وإعادة النّظر فيها، مع وضع تأثير الشّركات على الشّركات في قلبها والاستفادة من النّفوذ المتزايد للمؤثّرين المحلّيين. لأنّ مستقبل الاتّصالات التّجاريّة في منطقة الخليج يكمن هناك.
المؤلّف أشرف الشكعة Ashraf Shakah
أشرف الشكعة هو رئيس قسم العلاقات العامّة والتّأثير في شركة ميماك أوجلفي MEMAC Ogilvy في الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا. https://ae.linkedin.com/in/ashrafshakah
ترجمة وتدقيق صَبَا سعيد
تحذير واجب.
يرجى التواصل لطلب إذن الاستخدام:
info@ipra-ar.org
مرحبا بك في IPRA
آخر المقالات:
الاتّصالات المتعلّقة بتغيّر المناخ: اتّجاهات من ثلاث سنوات من المرشّحين النّهائيّين للجّائزة العالميّة الذّهبية للجّمعية الدّوليّة للعلاقات العامّة IPRA
كيف يتمّ تحديد الفائز؟ تمّ تقديم فئة التّغيّر المناخيّ في عام 2022، وهي الفئة الذّهبيّة لجوائز IPRA العالميّة لتغيّر المناخ، والّتي تسلّط الضّوء على دور العلاقات العامّة في معالجة أزمة المناخ.
بقلم دانيال سيلبرهورن Daniel Silberhorn
إضفاء الطّابع الإنساني على الذّكاء الاصطناعي: مشاركة الناس في جوهر الحوار
يمكن لمحترفي العلاقات العامّة سدّ الفجوة بين التّكنولوجيا والبشريّة - وعلينا أن نفكّر في الذّكاء الاصطناعيّ بوصفه "تفسيراً اصطناعيّاً".
بقلم روجر هورني Roger Hurni
طريق قيّمٌ ذو اتّجاهين: إطلاق العنان لقوّة التّوجيه في العلاقات العامّة والاتّصالات العالميّة
أصبح التّوجيه أكثر أهمّيةًًً من ذي قبل، وينبغي على أعضاء الجمعيّة الدّوليّة للعلاقات العامّة IPRA الالتزام به مدى الحياة.
بقلم فيليب تيت Philip Tate
آخر الأخبار :
-
الاتّصالات المتعلّقة بتغيّر المناخ: اتّجاهات من ثلاث سنوات من المرشّحين النّهائيّين للجّائزة العالميّة الذّهبية للجّمعية الدّوليّة للعلاقات العامّة IPRA
كيف يتمّ تحديد الفائز؟ تمّ تقديم فئة التّغيّر المناخيّ في عام 2022، وهي الفئة الذّهبيّة لجوائز IPRA العالميّة لتغيّر المناخ، والّتي تسلّط الضّوء على دور العلاقات العامّة في معالجة أزمة المناخ.
بقلم دانيال سيلبرهورن Daniel Silberhorn
-
إضفاء الطّابع الإنساني على الذّكاء الاصطناعي: مشاركة الناس في جوهر الحوار
يمكن لمحترفي العلاقات العامّة سدّ الفجوة بين التّكنولوجيا والبشريّة - وعلينا أن نفكّر في الذّكاء الاصطناعيّ بوصفه "تفسيراً اصطناعيّاً".
بقلم روجر هورني Roger Hurni
-
طريق قيّمٌ ذو اتّجاهين: إطلاق العنان لقوّة التّوجيه في العلاقات العامّة والاتّصالات العالميّة
أصبح التّوجيه أكثر أهمّيةًًً من ذي قبل، وينبغي على أعضاء الجمعيّة الدّوليّة للعلاقات العامّة IPRA الالتزام به مدى الحياة.
بقلم فيليب تيت Philip Tate