البثّ الإذاعي للتراث: كيف تقوم وسائل الإعلام بتدوين الثقافة في السجلات
لم يعد التواصل طريقاً أحادي الاتجاه، بل أصبح تبادلاً تفاعلياً بين العديد من الأصوات، عبر قنوات متعددة. بقلم شيلبي جاينShilpi Jain.
رقص غجر روما من راجستان إلى إسبانيا؛ قصص من الملاحم الهندية رامايانا وماهابهاراتا على جدران المعابد والقصور في أنغكور وات بكمبوديا؛ تأثير الدراما الغربية وتأثير اللوحات الأوروبية والصينية وجنوبي شرق الهند خلال حكم المغول.
وهذا دليل كافٍ على التأثير المتزايد للشرق والغرب على بعضهما البعض منذ العصور القديمة، حتى قبل وجود وسائل الإعلام وقنوات الاتصال الرسمية بوقت طويل. كما تجاوزت التفاعلات المبكرة على طول طريق الحرير والطرق البحرية حدود التبادل الاقتصادي، حيث أسست نسيجاً ثرياً من أشكال التقدير والتبادل الثقافي. وأدت حركة الناس والأفكار إلى سد الفجوات بين الحضارات، مما عزز التفاعل الحيوي الذي أثرى المجتمعات الشرقية والغربية على حد سواء.
وقد أرسى ذلك الأساس للتفاعلات العالمية المعقدة التي نشهدها اليوم، مما يسلط الضوء على الأهمية الخالدة للاتصالات كوسيلة للتواصل والتعاون عبر الحدود.
بالنظر إلى هذا السياق التاريخي، لماذا التركيز على ربط الإعلام والعلاقات العامة بالثقافة الآن؟
إن ما يقرب من 89% من مجموع النزاعات الحالية في العالم اليوم يحدث في البلدان التي ينخفض فيها مستوى الحوار بين الثقافات. ولأجل إقامة تعاون فعال والحفاظ على السلام، يجب أن يكون تعزيز الحوار بين الثقافات أولوية. – اليونسكو
تتمتع المنصات الإعلامية - من الصحف والتلفزيون وشبكات الإعلام الرقمي - بقدرة فريدة على التقاط ونشر وتضخيم القصص التي تعكس تاريخ ثقافة ما ومعتقداتها وقيمها. فمن خلال تسليط الضوء على الممارسات الثقافية والمهرجانات والموسيقى واللغة والفن والطهي، يمكنها أن تلفت الانتباه إلى تفرد المجتمعات المختلفة وتعزز احترام التنوع الثقافي.
كما يمكن لوسائل الإعلام، من خلال الأفلام الوثائقية والقصص الإخبارية وحملات وسائل التواصل الاجتماعي، الاحتفاء بالتقاليد الفريدة لمختلف المجتمعات، وتعزيز احترام التنوع الثقافي ومكافحة القوالب النمطية. فعلى سبيل المثال، تقدم وسائل الإعلام في ماليزيا وسنغافورة تقارير مكثفة عن مهرجانات المجتمعات المختلفة وممارساتها الدينية وما إلى ذلك. وقد أدى البث التلفزيوني والمقالات الإخبارية في وسائل الإعلام حول كيفية اندماج الجاليات المختلفة واختلاطها ببعضها البعض، إلى ممارسة مثيرة للاهتمام تتمثل في اجتماع الماليزيين من خلفيات مختلفة للاحتفال بعيد "يي سانغ" كجزء من احتفالات السنة الصينية الجديدة.
كما تلعب العلاقات العامة دوراً لا يقل أهمية في الحفاظ على التراث الثقافي، وذلك من خلال تشكيل الإدراك العام، وبناء روايات تقدّر التراث الثقافي وتحميه. فمن خلال سرد القصص والشراكات مع العلامات التجارية والفعاليات والتواصل مع وسائل الإعلام، يمكن لحملات العلاقات العامة أن تخلق شعوراً بالفخر والتقدير للممارسات الثقافية، فضلاً عن كسب الأموال ودعم المبادرات التي تحافظ على التراث الثقافي. ومن الأمثلة القوية على ذلك، دور مجالس ومنظمات السياحة التي تروج للثقافات المحلية من خلال جهود التواصل الاستراتيجي.
بالإضافة إلى ذلك، تستفيد العلاقات العامة الفعالة من المحتوى المحلي والتواصل متعدد اللغات لتوسيع نطاق الوصول وبناء الثقة. فعن طريق ترجمة الرسائل وتهيئة الحملات لتعكس اللغات والتعابير والتفضيلات الثقافية الإقليمية، يتم تجنب الأخطاء الثقافية وإظهار الاحترام للهوية الفريدة لكل مجتمع. وهذا لا يعزز تأثير الرسالة فحسب، بل يعمق الروابط، حيث من المرجح أن يتفاعل الناس مع المحتوى الذي يبدو أصيلاً ومراعياً لثقافتهم.
وفي عالم يُحتفى فيه بالتنوع، لا يمكن أن تكون هذه الجهود الإعلامية وجهود العلاقات العامة التي تتوافق مع الثقافات أدوات قوية لتعزيز الوحدة عبر الحدود فحسب، بل يمكن أن تتيح فرصاً لكسب الرزق أيضاً.
كما تسلط بيانات اليونسكو الضوء على القطاع الثقافي والإبداعي باعتباره محركاً رئيسياً للتنمية العالمية، حيث يدعم أكثر من 48 مليون وظيفة في جميع أنحاء العالم، وتشغل النساء ما يقرب من نصف هذه الوظائف. ويمثل هذا القطاع 6.2٪ من العمالة العالمية ويساهم بنسبة 3.1٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، مما يؤكد التأثير العميق للتراث الثقافي والتعبير الإبداعي على التنمية المجتمعية. حيث تجسد الهند، بنسيجها الثقافي الغني الذي يمتد لآلاف السنين، الدور القوي للثقافة في تشكيل الهويات والاقتصادات.
دراسة حالة:
تفتخر الهند، وهي واحدة من أقدم الحضارات في العالم، بتراث ثقافي غني يمتد إلى ما يقرب من خمسة آلاف عام. وقد أثرت مرونتها وقدرتها على التكيف بشكل كبير على الديانات والفلسفات والتقاليد العالمية، حيث يبلغ عدد سكانها 1.4 مليار نسمة. وقد أصبح الساري الذي يرتديه الهنود اليوم عالمياً، كما أصبح البيندي (ملصق أحمر يزين جبين المرأة في الهند) يلقى رواجاً في الغرب.
ولكن، هل فكر أحدكم في سبب هذه الصيحة؟ لطالما كانت الإكسسوارات موجودة، ولطالما كان الساري هندياً، فما الذي أحدث الفرق؟ الإجابة بسيطة: الحصول على المزيد من المعلومات، لاسيما مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية. فقد أعاد المصممون تصوّر الساري ومزجوا بين الجماليات العصرية والعناصر الثقافية، مما جعله أكثر إتاحة وجاذبية للجمهور العالمي.
لذلك يمكن لوسائل الإعلام والعلاقات العامة معاً أن يمدا جسور التواصل بين الثقافات عبر البلدان، من خلال صياغة قصص عالمية ذات صلة تتضمن الفروق المحلية. ويكتسب تآزرهما أهمية خاصة في إيصال أصوات المجتمعات الأصلية والحفاظ على التقاليد المهددة بالانقراض، وإيجاد حلول للتحديات العالمية، مثل تغير المناخ.
ومن خلال سرد القصص التي تتناول التجارب الإنسانية المشتركة - مثل المرونة والأسرة والمجتمع - يمكن أن تؤدي استراتيجيات الإعلام والعلاقات العامة إلى اتخاذ قرارات مستنيرة، يكون لها صدى أصيل لدى الناس. كما تعمل وسائل الإعلام الرقمية على تضخيم هذه الرؤية الثقافية من خلال توفير بيانات في الوقت الحالي عن السلوك، والتفضيلات، والتركيبة السكانية. وتُظهر قصص النجاح مثل حملة "الحلاق" من جيليت، ومبادرات الخطوط الجوية البريطانية المصممة خصيصاً لتناسب ثقافات الشعوب، كيف يمكن لرؤى وسائل الإعلام الرقمية أن تقود حملات مؤثرة ومترابطة ثقافياً.
واليوم يتجاوز كل من المحتوى والتكنولوجيا الحدود الوطنية، لإيجاد حالة من تدفق المعلومات والثقافة. ومع تكيّف أشكال وسائل الإعلام التقليدية مثل المطبوعات والإذاعة والتلفزيون مع العصر الرقمي، أصبحت هذه الوسائل جزءاً من شبكة مترابطة تتيح المشاركة والوصول الفوريان، مما يؤثر على الخطاب العام. ومع ذلك، وبينما يعزز ذلك إلى حد كبير التبادل الثقافي ووجهات النظر المتنوعة، إلا أنه يطرح تساؤلات حول التجانس الثقافي ومصداقية المعلومات.
لقد دخل العالم حقبة تتراجع فيها الولايات المتحدة الأمريكية التي قادت العولمة في القرن الماضي. ويبدو أننا في مرحلة ما بعد الجائحة نتجه باطراد نحو مرحلة عودة الاقتصادات المغلقة، وهي المرحلة التي يتعرض فيها الترابط بين الدول للتهديد.
ومع هذا التحول التدريجي نحو هيكلية أكثر تجزئة، يعاني عالم الديمقراطيات الحر من ثقل التعارض والدين والأصولية. وبالتالي، شئنا أم أبينا، نحن لا ندخل عالماً من الحواجز المادية فحسب، بل ندخل عالماً من الحواجز المنغلقة على نفسها أيضاً. فأي سهو يمكن أن يؤدي بسهولة إلى تفاقم سوء الفهم، وتأجيج المزيد من الخلافات.
ويمكننا جميعاً أن نتذكر القضية المعروفة لإعلان بيبسي لعام 2017 الذي ظهرت فيه كيندال جينرKendall Jenner، والذي صورها وهي تنضم إلى مظاهرة وتسلم علبة بيبسي إلى ضابط شرطة لتخفيف حدة التوتر السائدة في المكان. وقد تعرض هذا الإعلان لانتقادات لاذعة بسبب استخفافه بحركات العدالة الاجتماعية مثل حركة حياة السود ذات الأهمية، مما اضطر بيبسي إلى الاعتذار وسحب الإعلان. وبالمثل، أُدينت حملة العلامة التجارية الفاخرةBalenciagaلعام 2022 التي ظهرت فيها أطفالاً مع دُمى دببة ترتدي ملابساً مستوحاة من العبودية باعتبارها غير لائقة، مما أجبر العلامة التجارية على إصدار اعتذار. فإذا كان من الممكن أن تنحرف الحملات الإعلانية عن مسارها آنذاك، تخيل ما يمكن أن يحدث في العصر الرقمي الأسرع اليوم. فهذه الحالات تؤكد فقط على أهمية الوعي الثقافي والرسائل الحذرة، حيث يمكن أن يؤدي سوء التقدير في العلاقات العامة والإعلانات إلى ضرر كبير على السمعة.
إذاً، لم يعد التواصل في عالم اليوم طريقاً أحادي الاتجاه، بل أصبح تبادلاً تفاعلياً بين العديد من الأصوات عبر قنوات متعددة. وهذا التحول يتطلب منا تجاوز مرحلة تلقي المعلومات، والمشاركة كمحللين واعين باستخدام التفكير النقدي لتفسير وجهات النظر المتنوعة، وطرح الأسئلة حولها وفهمها. وبذلك، يمكننا أن نعزز الحساسية الثقافية، ونشجع المشاركة المدنية النشطة، ونعزز مجتمعاتنا ومؤسساتنا. وهنا يمكن لسياسة الحكومة أن تلعب دوراً مهماً في مواجهة وسائل الإعلام، ويجب أن تعترف بدور هذه الأخيرة في نشر المعرفة الثقافية، إن لم يكن في إتاحتها، وتعزيز الخطاب الثقافي.
وفي سياق هذا التحول، يمكن للسياسات الداعمة أن تروج للمعرفة الثقافية وتعزز الخطاب الهادف. وإدراكاً لقدرة وسائل الإعلام والعلاقات العامة على تشكيل الثقافة، يمكن لصانعي السياسات أن يساعدوا في ضمان عمل هذه المنصات كقنوات للحفاظ على التراث الثقافي وتطويره وإحيائه، بدلاً من السماح له بالتلاشي.

المؤلفة شيلبي جاينShilpi Jain
تتولى شيلبي جاين قيادة الاتصالات المؤسسية في شركةIPE Global، وهي خبيرة مخضرمة في مجال الاتصالات تتمتع بخبرة تقارب عقدين من الزمن. ومنذ انتقالها من قطاع الشركات في عام 2010، قادت شيلبي مبادرات الاتصال لحكومة الهند ومنظمات الإغاثة الدولية والمؤسسات الخيرية.
https://www.ipra.org/news/itle/itl-606-broadcasting-heritage-how-media-puts-culture-on-record/
ترجمة وتدقيق صَبَا إبراهيم سعيد
تحذير واجب.
يرجى التواصل لطلب إذن الاستخدام:
info@ipra-ar.org
اخر المقالات








اخر الاخبار







