التأثير على جيل الألفية الجديدة والجيل Z: الحاجة إلى نهج جديد في العلاقات العامة



حوَّل ابتكار الانترنت في منتصف تسعينيات القرن الماضي العالم؛ حيث أصبح بمقدور الناس أن يتواصلوا مع بعضهم البعض بشكلٍ فوري وزهيد الثمن عن طريق البريد الالكتروني أينما كانوا يتواجدون، وكانوا يقومون بإجراء المحادثات المشوّقة في غرف الدردشة مع العشرات الآخرين ممّن لديهم اهتمامات مشتركة. على هذا النحو، أصبح تدريجياً مكان تواجد الشخص أقلّ أهميةً مقارنةً بشغفه وما يمثّله. 

تطوّر الأمر إلى أبعد من ذلك مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين؛ حيث ازدادت مشاركة الناس عبر الانترنت عدة أضعاف، وبدأوا باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي لتشكيل السرديات والآراء العالمية؛ بل وحتى لتعزيز الثورات. بعد بضعة سنوات؛ بدأت ثورة الهواتف المحمولة مع الانتشار الواسع للهواتف الذكية، والتي تمتلك ذات قوة المعالجة التي كانت تمتلكها الحواسيب العملاقة قبل بضعة عقود فقط. أصبح الناس يُمضون ساعاتٍ عديدة على الإنترنت بوجود الهواتف الذكية في جيوبهم، وهو ما أدى إلى بروز اقتصاد جديد تغذّيه البيانات.

نشهد الآن ولادة ثورة أخرى؛ ثورة قد تضاهي سابقتيها، ومحركها الأساسي هو الذكاء الصنعي. فمع بلوغ الوَحدة ذروتها في وقتنا هذا؛ يجد الرجال والنساء في الأصدقاء الافتراضيين المدعومين بالذكاء الصنعي من يمنحهم الرفقة، ويجرون معهم محادثات لا تقلّ في العمق والمعنى عن تلك التي يجرونها مع شركائهم الحقيقيين!

أثناء هذه الرحلة المذهلة تغيَّر شيءٌ جوهري في الطبيعة البشرية؛ إذ بدأ الناس تدريجياً بالتخلّي عن التفكير الجماعي، واعتناق الفردية عوضاً عنه؛ إلا أنّ كلّ جيل من الأجيال اعتنق الفردية بدرجة تختلف عن سواه.

الأجيال الأصغر، لاسيما جيلي الألفية الجديدة والجيل Z (يُشير الجيل Z إلى مجموعة الأشخاص الذين وُلدوا بين أواخر التسعينيات وأوائل القرن الحادي والعشرين)، هم أكثر ميلاً لاعتناق الفردية؛ بالمقارنة مع الجيل X و"البوومرز" (يُشير الجيل X إلى أولئك الذين وُلدوا في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي؛ بينما يُستخدم مصطلح البوومرز للإشارة إلى الأشخاص الذين وُلدوا في الفترة ما بين عامي 1945 و1965). فهم؛ أي جيلي الألفية وZ، مواطنون رقميون اعتادوا على استخدام التكنولوجيا منذ صغرهم، وهم يجيدون استخدام الهواتف الذكية، وأَدمجوا الأدوات الرقمية في حياتهم اليومية.

لقد أثّرت تفضيلات هذه الفئات الأصغر سناً على مسار الاتجاهات الرقمية العالمية ووتيرتها التي تتطور منذ ما يقارب ثلاثة عقود.  

 

انطلاقة النزعة الفردية

يبلغ عدد مستخدمي الهواتف الذكية حول العالم ما يقارب الستة مليارات شخص. هذه الهواتف لا تختلف بحد ذاتها عن بعضها البعض، ولكن محتواها هو الذي يختلف – غالباً بشكل كبير. إلى جانب ذلك، شهد نمو الخدمات الرقمية تعزيزاً كبيراً نتيجةً للعدد الكبير من صنَّاع المحتوى، والمحتوى المبثوث عبر الإنترنت. 

يقضي عشرات الملايين من الناس ساعات عدة يومياً في مشاهدة والتعليق على صور، ومقاطع فيديو، وتغريدات صنعها مؤثرون لم يقابلوهم قط، كما أنّهم في الوقت نفسه يطمحون لأن يصبحوا أنفسهم مؤثرين! إنّ كلاً من هذا المحتوى عبر الانترنت، وهؤلاء المؤثرون ينتجون بشكلٍ متسارع واقع جديد كلياً؛ إذ إنّ إمكانية الحصول على المحتوى المبثوث المجاني وزهيد الثمن تعني بأنّ شخصين متشابهين في جميع النواحي قد يكون لكلّ منهم رؤىً وتصورات مختلفة اختلافاً كبيراً في الوقت نفسه.     

مواجز/صفحات وسائل التواصل الاجتماعي العائدة لرجل يبلغ من العمر 22 عاماً قد تكون مليئة بأخبار عن إحدى الحروب المندلعة؛ بينما قد تُظهر مواجز/صفحات شخص آخر مغامرات مجموعة يافعين يبذلون قصارى جهدهم لإدارة صداقاتهم وهم يقطعون أشواطاً بعيدة في حياتهم. اجمعهما في غرفةٍ واحدة وستجدهما يواجهان صعوبةً بالغة في إجراء أي حوار ذو مغزى! من جهة أخرى؛ يَسهل على الأفراد الذين لديهم مواجز/صفحات ذات محتوى متشابه أن يكوِّنوا علاقة بينهم.  

يوَجِّه هذه الروابط الاجتماعية الذكاء الصنعي بقدراته المذهلة وخوارزمياته؛ رفضت شركة "بايت دانس" عرضاً مربحاً قدمته لها شركة "مايكروسوفت" لشراء خوارزميتها الثمينة بما لها من قدرة هائلة على جذب المشاهدين؛ إلا أنّ الأهم من ذلك، هو أنّ البشر ليسوا هم من يتحكم بهذه العلاقات الجديدة التي يتم تكوينها عبر العالم؛ بل الذكاء الصنعي هو المتحكم.   

يقوم الذكاء الصنعي عن طريق الخوارزميات بتشكيل جيلٍ جديدٍ يختلف تماماً عن كل ما سبقه؛ حيث أصبح بإمكان الجميع، مهما كانت توجهاتهم غير تقليدية، أن يعثروا على آخرين ممّن يشاركونهم في وجهات النظر ويتواصلون معهم. ومن المرجّح أن يكون مثل هؤلاء الناس أقل انقياداً للسلطة؛ فهم يقومون بتشكيل قيمهم الخاصة بدلاً من ذلك، ويتلقون دعمهم في ذلك من معرفتهم بأنّ العالم مليء بملايين الأفراد الذين يتبنّون الآراء ذاتها. هذه مجتمعات عالمية بروح جديدة ومتمايزة.

يوجد لهذه الظاهرة ما يشابهها في الماضي. فقبل قرن من الزمن، ومع ظهور علم العلاقات العامة، تشجَّع المستهلكون على استخدام المنتجات التي تعبّر عن شخصياتهم المنفردة، ثمّ في الستينيات؛ ظهرت معالجات الحاسوب الدقيقة، وأتاحت الفرصة لتصميم منتجات أكثر تنوّعاً حتى؛ الأمر الذي أعطى الفردية دَفعة أخرى. ما يحدث اليوم يفوق إلى حدٍّ كبير كلّ ما حدث في الماضي؛ فما كان مقتصراً في حدوثه على العالم المتقدم أصبح يحدث الآن على نطاق عالمي بفضل ثورة الهواتف المحمولة وبشكل أعمق بكثير من أي ممّا حدث في العشرينيات والستينيات. المؤثرون، المحتوى الالكتروني، والذكاء الصنعي هم من يدفعون بهذا التحول، وذلك من خلال إنتاجهم معاً لواقع وأخيلة جديدة.

ما هي دوافع جيل الألفية والجيل Z؟

 ليس بالضرورة أن يكون الشائع أكثر هو الأفضل (كل ما زاد عن حدِّه نَقِصَ). هذا القول المأثور ينطبق إلى حد كبير في سياق وسائل التواصل الاجتماعي والمؤثرين، لأنّه يمكن لأي شخص بحوزته هاتف ذكي وجهاز كمبيوتر أن ينشر المحتوى ومقاطع الفيديو؛ فالمؤثرون – أو بالأحرى من يتطلعون لأن يكونوا كذلك – يوجد منهم بالجُملة!

إنّ الأشخاص الذين يمتلكون موهبة ملحوظة عدا عن صناعة المحتوى هم من يمتلكون القوة الحقيقية في هذا المجال.

مثل هؤلاء المؤثرون يتمتعون بروابط وصلات وثيقة مع متابعيهم، ولديهم القدرة على فهم توجهاتهم بشكلٍ جيد؛ ممّا يجعلهم قادرين على التأثير عليهم لشراء أو بيع منتجات معينة، أو تبنّي أفكار وايديولوجيات معينة، أو تجنبها. كما أنّ جماهيرهم عالمية يوحّدها الإعجاب بهم، وبوجهات نظرهم، وبنمط حياتهم ومساراتها.

قوة النجوم التي منحها الجيل X و"البوومرز" لنجوم الأفلام، والرياضيين، والموسيقيين، استبدلها كلٌّ من جيل الألفية الجديدة والجيل Z بمنحها للمؤثرين.

يوجد بعض المؤثرين المخادعين والمحتالين؛ إلا أنّ معظمهم ليسوا كذلك، ومتابعيهم المخلصين ليسوا جزءاً من طائفة. عوضاً عن ذلك؛ في عالمنا اليوم حيث تم تقويض شخصيات السلطة التقليدية، قام المؤثرون؛ سواء بوعي أو دون وعي بملء الفراغ.        

ثقة أفراد جيل الألفية والجيل Z بالمؤثرين ليست خاطئة؛ فهؤلاء المستهلكون الأصغر سناً واعون للغاية، وقادرون على تمييز الكذب من الحقيقة بسرعة. لهذا السبب؛ فإنّ الأشخاص الأكثر ضميراً ودقةً أو موهبةً هم من يتمكّنون بالفعل من أن يصبحوا مؤثرون؛ حيث يرتبط متابعوهم بهم، وببعضهم البعض من خلال فهم ضمني؛ أشبه برمز داخلي يتضمّن مصطلحات معينة خاصة بهم؛ إضافةً إلى بعض الخرافات المشتركة بينهم حول حياة المؤثرين. 

توظيفهم في صناعة العلاقات العامة

لم تفوّت قوة المؤثرين وظهور واقع جديد انتباه مهنيين العلاقات العامة؛ بل على العكس. فعلى مدار العقد الماضي تعاملت صناعة العلاقات العامة بشكلٍ نشط ومستمر مع المؤثرين، وأولئك الذين يصنعون محتوى يؤدي إلى ظهور واقع جديد وقصص مثيرة للاهتمام.

في العقد القادم، ومع تزايد نزعة الفردية بفعل تطور خوارزميات الذكاء الصنعي وازدياد قوتها بشكلٍ كبير، سيتعين على صناعة العلاقات العامة أن تبقى متهيئةً لفهم الوقائع، والهويات، والثقافات الفرعية الجديدة التي سوف تبرز حول العالم، وسيصبح فهم العوالم الداخلية لأولئك الموجودين ضمن هذه العوالم أمراً في غاية الأهمية بالنسبة لمهنيي العلاقات العامة في السنوات القادمة.


تابعنا :