تحذير من دول الشّمال الأوروبي: يوم عمل العلاقات العامّة يتعذّر معه الاستمرار



قد تبدو الحياة اليوميّة كشخص يعمل في مجال الاتّصالات وكأنّها تجميع عدّة ألغاز من 1000 قطعة في نفس الوقت. بقلم إيريك أويستاد Eirik Øiestad

 

 

أظهر استطلاع للرّأي أجري مؤخّراً على العاملين في مجال العلاقات العامّة والاتّصالات في دول الشّمال الأوروبي نتيجة مذهلة مفادها أنّ الغالبيّة تفكّر في الاستقالة، فقد وصل التّشتّت في يوم عملنا إلى مستوى لايمكن تحمّله .

 

 والبشريّة، وفقاً للعلماء، تعاني من مستوىً "وبائي" من الغفلة وغياب الانتباه الّذي تغذّيه المشتّتات الرّقميّة وطريقة تنظيم الحياة العصريّة. ولا يمكن إيجاد تفسير لذلك في علم الأعصاب، بل في بيئتنا. وبعبارةٍ أخرى، إنّها أزمة تنبع من الذّات.

 قد يبدو الأمر في مجال العلاقات العامّة والاتّصالات وكأنّنا قد أتقنّا خلق بيئات وأدوار تعزّز عدم الانتباه. أي أنّنا نخلق ونعيد خلق البيئات والهياكل الّتي تقلّل من قدرتنا على التّعمّق في العمل. إذ إنّ القدرة على التّركيز بعمق هي شرط أساسيّ لإحداث الفرق. لكنّنا نكتفي بقشط السّطح، أي أنّنا نكتفي بقشط العديد من الأسطح في نفس الوقت، والنّتيجة هي السّطحية. وهذا هو الّذي يرهقنا.

 

      التّعقيد والقيمة

يلخّص تقرير "حالة العلاقات العامّة والاتّصالات في دول الشّمال الأوروبي لعام 2024" كيف تعمل هذه الآليّات الآن في صناعة الاتّصالات في دول الشّمال الأوروبي. حيث يستند التّقرير إلى إجابات أكثر من 450 مهنيّاً في السّويد والنّرويج والدّنمارك، ويُظهر أن جزءاً كبيراً من القوى العاملة في صناعتنا يكافح في حياته العمليّة ويفكّر في اتّخاذ خطوات مهنيّة مهمّة.

• 52% يقولون أنّ التطوّر الحالي في دورهم الوظيفي وضعهم في أزمة هويّةٍ مهنيّة.

• ويرى 51% من المشاركين أنّ دورهم قد تغيّر كثيراً لدرجة أنّهم يفكّرون في ترك وظيفتهم أو ترك هذا المجال.

هناك نقطتان في غاية الأهميّة بالنّسبة لنا نحن الّذين يجب أن نُوجد بيئات عملٍ مجزّية لمحترفي الاتّصالات وهما: الحدّ من التّعقيد وزيادة الاعتراف بمساهماتنا. إذ علينا أن نوفّر للنّاس الأدوات والظّروف اللّازمة للتّعمق في العمل. إذا نجحنا في ذلك، سنزيد من الرّضا الوظيفي وتأثيرنا الجّماعي والفردي معاً، ومن قدرتنا على تحسين الظّروف الاقتصاديّة.

وطوال فترة عملي في هذا المجال، كان النقاش يتمحور باستمرار حول كيفيّة إبراز قيمة مهنيّي العلاقات العامّة بفعاليّة والاستفادة من الاعتراف بمساهماتنا بشكلٍ أكبر - بغضّ النّظر عن أدوارنا سواءً كانت أدواراً داخليّة أو ضمن إطار عمل الوكالة.

لكن هناك ما يدعو للخوف من أنّنا لم نقترب من التّوصّل إلى اعترافٍ عام يتساوى مع الاعتراف بمجالاتٍ مثل القانون والماليّة.

 

      نموذجٌ معطّل؟

لقد عملت في مجال الإعلام والاتّصال لأكثر من 20 عاماً، في البداية كصحفيٍّ شاب قبل أن أنتقل إلى العمل في مجال العلاقات العامّة الدّاخليّة ثمّ إلى عالم الوكالات في لندن، وقبل أن نؤسّس وكالتنا الخاصّة. لقد كنت جزءاً من بناء وكالة علاقات عامّة تخدم عملاء دوليّين كبار وعملاء من دول الشّمال الأوروبي. وعلى طول الطّريق قمنا بدعم جوجل، وميتا، ونت فليكس لما مجموعه 26 عاماً من التّوكيل. وفي الفترة نفسها، كنت مشاركاً نشطاً للغاية في شبكة الوكالات الدّوليّة PROI. وبالتّالي فإنّ خبرتي تستند إلى تجربةٍ واسعة النّطاق من حيث الوقت والجّغرافيا.

وخلال العقدين اللّذين قضيتُهما في هذه الصّناعة، ازداد تعقيد يوم العمل لدينا بشكل كبير، إلى درجة أنّ هناك ما يدعو للتّساؤل عمّا إذا كان النّموذج الأساسي الّذي نعتمد عليه معطوباً. والنّتيجة المباشرة لذلك هي أنّنا كأصحاب عمل في هذه الصّناعة لم نعد نوفّر لموظّفينا حياة يوميّة قابلةً للاستمرار - وهو اتّجاه تسارع في فترة ما بعد الجّائحة.

 إنّه تصوّرٌ صعب الإدراك.

ففي وقت مبكّرٍ من رحلتنا، أدركنا كقادةٍ للوكالات أنّ التّجزئة المتزايدة ليوم العمل بالنّسبة لمعظم النّاس تمثّل تحدّياً أكبر من عبء العمل الكُلِّي. وأنا أرى سببين أساسيّين لهذا التطوّر وهما: تزايد التّشتّت في المهام والمسؤوليّات (وهي حقيقة أكّدها أيضاً الاستطلاع المذكور أعلاه). وكذلك عالم الوكالات حيث يتعامل كلّ موظّف ببساطة مع الكثير من العملاء.

وهذا يؤدّي إلى وضع عمل نقوم فيه بالتّوفيق بين عدة مهام مختلفة وغير مترابطة. إذ نختلس النّظر إلى الأسطح. نعاني من عدم القدرة على التّركيز على مهمّة واحدة أو مجموعة مترابطة من المهام. ويؤدّي ذلك إلى عدم الكفاءة والتّوتر، حيث نتنقّل باستمرارٍ بين المهام، وربما لا نولي اهتماماً كافياً لأيّ مهمّة واحدة.

 

      التّنوّع مقابل التّجزئة

نعم، نحن نعمل لساعاتٍ طويلة في هذا المجال، ولكنّنا لا نعمل لساعاتٍ أطول من المحامين والاستشاريّين الإداريّين، ولا نعمل في مواقف يوميّة أصعب من الممرّضات والمعلّمين. ومع ذلك، يجب أن ندرك أنّنا غالبًا ما نعمل بأدواتٍ وهياكل أسوأ (إن وجِدت) من العاملين في مجال المعرفة الّذين يمكن أن نقارن أنفسنا بهم. إذ يتعلّق الأمر بأنّ مجالنا ليس متطوّراً مثل القانون والاقتصاد.

ولكن للأمر علاقة أيضاً بطبيعتنا كعمّال مبدعين نتعامل مع عالمٍ تقلّ فيه الثّوابت واليقين أكثر فأكثر.

وغالباً ما تفسح الأدوات والنّماذج المجال للحدس والإلهام. فأولئك الّذين يعملون منّا بطريقةٍ إبداعيّة يحبّون التّنوّع، وقد يميلون إلى الاعتقاد بأنّ اليوم الّذي لا يتكرّر فيه الكثير من الأعمال أمرٌ جيد.

ومع ذلك، فإنّ التّجزئة شيء مختلفٌ تماماً عن التّباين. فالتّجزّؤ هو عدوّ الإنتاجيّة الإبداعيّة. وتتمثّل إحدى المفارقات الكبيرة في أنّ وظيفتنا غالباً ما تكمن في مساعدة عملائنا أو زملائنا في رؤية ونقل صور واضحة. ومع ذلك، قد تبدو الحياة اليوميّة كشخص في مجال الاتّصالات وكأنّها تجميع عدّة أحاجي من 1000 قطعة في نفس الوقت - دون الوقت والتّركيز والبصيرة اللّازمة لإخراج الصّورة الواضحة الّتي نعلم أنّها موجودة.

 

     التّقليل من شأننا

نحن نعيش في عالمٍ يتطلّب منّا مهنيّة عالية مثل المحامين والمستشارين الإداريّين وقادة الأعمال. ومع ذلك، لا يتمّ الاعتراف بمساهماتنا بنفس المستوى الّذي تحظى به هذه الفئات الثّلاث من المهنيّين. وهنا تكمن إحدى مشاكلنا الأساسيّة:

إذ إنّ الاعتراف بقيمة خدماتنا والاستعداد لدفع ثمنها لم يواكب التّعقيد المتزايد لحياتنا اليوميّة. فنحن لا نتقاضى أجراً كافياً نسبيّاً مقابل عمليّات التّسليم الّتي تتطلّب منّا المزيد. والسّبب في ذلك هو أنّه حتّى في عالم تعيش فيه الشّركات وتموت بسمعتها، لا تزال العلاقات العامّة لا تحظى بنفس الاعتراف الّذي تحظى به الخدمات الماليّة أو القانونيّة بين مشتري خدماتنا.

وتوضّح المقارنة بين الواقع الاقتصادي لأكبر 10 شركات محاماة ووكالات العلاقات العامّة في النّرويج (باستثناء وكالات الشّؤون العامّة البحتة) لعام 2022، الصّورة بشكل مثالي:

• أكبر 10 شركات محاماة لديها معدّل عائدات أعلى 14 مرّة من أكبر 10 وكالات علاقات عامّة.

• يبلغ متوسّط هامش الرّبح التّشغيلي لوكالات العلاقات العامّة 8%، بينما يبلغ هامش الرّبح التّشغيلي لشركات المحاماة 45%.

• تبلغ الأرباح التّشغيليّة لوكالات العلاقات العامّة 8% فقط من أرباح شركات المحاماة.

حيث تُعتبر صناعة العلاقات العامّة، من جميع النّواحي، شركة صغيرة مقارنةً بمهنة المحاماة. ومن السّهل التّغاضي عن الشّركات الصّغيرة.

 

وصفة النّجاح والنّمو

لكي نكتسب الجّدارة اللّازمة ونصل إلى مكانة أكبر، يجب أن ننمو. يجب أن يكون الهدف هو أن يُعتبر التّواصل كنظام مهم بما فيه الكفاية ليتمّ دمجه في صميم عمل المؤسّسات: عند وضع الاستراتيجيّة.

وفيما يلي وصفة من ثلاثةِ أجزاء: إلغاء التّجزئة، حصر التّركيز وتعميقه، وتبنّي لغة التّخطيط الاستراتيجي (الأرقام).

حيث يتعلّق إلغاء تجزئة يوم العمل بالأدوات (خاصّةً الذّكاء الاصطناعي) والانضباط والهيكلة. وهذا يعني أيضاً التّضحية ببعض التّنوّع الّذي نميل إلى تفضيله على حساب التّبسيط. ولابدّ أن نتسامح مع التّكرار من أجل التّحسين بدلاً من البدء في كلّ مهمّة وتنفيذها من الصّفر.

فتضييق نطاق تركيزنا يعني خدمة عددٍ أقلّ من أصحاب المصلحة لنكون قادرين على العمل بعمقٍ أكبر، حيث يكمن مصدر التّأثير الأعلى. وبصفتنا مسؤولين في مجال التّواصل، فإنّنا نواجه خطراً متزايداً من زيادة عبء التّعاون، وما يسمّيه عالم النّفس التّنظيمي آدم غرانت Adam Grant "تناقص عوائد التّعاون". حيث يناقش غرانت كيف يمكن أن يؤدّي الإفراط في التّعاون إلى الإرهاق وانخفاض الإنتاجيّة وتراجع الرّضا الوظيفي. فنحن لسنا بحاجةٍ إلى الانخراط في جميع جوانب أنشطة المؤسّسة. بل نحن بحاجة إلى نهجٍ أكثر انتقائيّة، وحصر مساهماتنا في المجالات الّتي نعتبرها حاسمة. وستكون النّتيجة فهماً أعمق للقضايا ودوراً أكثر استراتيجيّة.

وأخيراً، نحن بحاجةٍ إلى إدخال المزيد من البيانات وتقليل الحدس والتّخمين في المناقشات. يجب أن تتحوّل لغتنا من "أعتقد" إلى "تُظهر بياناتنا". وبفضل خبرتنا، يمكننا أن نلعب دوراً حاسماً في فهم كيفيّة تطوّر الاستراتيجيّات والمبادرات المختلفة، من خلال التّجريب الدّقيق واختبار التّواصل.

ومن خلال القيام بكلّ ذلك، سنقوم بتبسيط الحياة اليوميّة للعاملين في مجال التّواصل، وبذلك نخطو الخطوة الأولى نحو تحقيق المزيد من الجدوى والقيمة في ممارستنا المهنيّة.

وهذا بدوره سيؤدّي إلى خلق قيمةٍ مضافةٍ لنا، ممّا يوفّر لنا ظروفاً أفضل وفرصةً للتّعمّق أكثر وتطوير إمكاناتنا باعتبارنا أهمّ موارد المؤسّسة.

ويجب أن نخلق مستقبلاً أكثر استدامة لصناعتنا وللعاملين فيها. وعندما تُظهر الاستطلاعات أنّ غالبيّة زملائنا في بلدان الشّمال الأوروبي يفكّرون في تغيير مجال عملهم، فقد تمّ تحذيرنا تماماً: إنّ المستقبل الّذي تلعب فيه صناعتنا دوراً حاسماً في المجتمع يبدأ بتحوّل حقيقي في أداء النّاس في يوم العمل.

 

المؤلف إيريك أويستادEirik Øiestad,

شريك إداري، شركة سليجر Släger

 

https://www.ipra.org/news/itle/tl-568-a-warning-from-the-nordics-the-pr-workday-is-not-sustainable/

 

ترجمة وتدقيق صَبَا إبراهيم سعيد

 

تحذير واجب.

 
لا يحق نشر أي جزء من منشورات ميديا & PR، أو اختزان مادته بطريقة الاسترجاع، أو نقله على أي نحو، سواء إلكترونياً أو ميكانيكياً أو خلاف ذلك دون الاشارة الى المصدر، تحت طائلة المساءلة القانونية
 

يرجى التواصل لطلب إذن الاستخدام:

info@ipra-ar.org

 

 


تابعنا :