فخ "صانع التغيير": إعادة النظر في سردية "المستقبل الأفضل"
في السنوات الأخيرة، برزت موجةٌ واسعة في مجال الاتصال المؤسسي تصوّر الشركات في صورة "صانعة التغيير" المنوط بها بناء مستقبلٍ أفضل. فقد تبنّت القطاعات - من الشركات الناشئة إلى التكتلات العالمية – سردياتٍ هادفة، مصوّرةً نفسها كمحركاتٍ إيجابية في العالم. ورغم تجذّر هذه السردية في تطور العلاقات العامة والإعلان على مدى عقود، إلا أنها اكتسبت زخماً غير مسبوق في العقد الماضي.
ورغم أنّ الترويج للعلامات التجارية القائمة على الغاية يمكن أن يكون ملهماً، إلا أنّه الآن يواجه أزمة مصداقية. حيث أصبح المستهلكون وأصحاب المصلحة يشعرون بشكٍ متزايد، ويعتبرون الادعاءات المبالغ فيها مضللة أو انتهازية. يتتبع هذا المقال صعود طفرة الترويج لصورة "صانع التغيير"، ويبحث في القوى الاجتماعية والاقتصادية الكامنة خلفه، ويطرح حجةً للعودة إلى التواصل القائم على أسسٍ متينة وقيمٍ حقيقية.
ويشكّل هذا بالنسبة لمحترفي العلاقات العامة فرصةً لإعادة التفكير في القصص التي نرويها، وضمان أن تكون تلك القصص قائمةً على أسسٍ واقعيةٍ وملموسة.
صعود سردية العلامة التجارية "صانعة التغيير"
حتى أواخر ثمانينيات القرن الماضي، كانت الحملات الموجهة صراحةً نحو تحقيق هدفٍ ما حكراً على المنظمات غير الربحية وتسويق الخدمات العامة. حيث ركّزت معظم الشركات على أداء المنتج، لا على الأخلاقيات. ولكن بحلول التسعينيات، أصبحت حماية البيئة والوعي الاجتماعي من أبرز التوجهات. ونجحت علاماتٌ تجارية مثل "ذا بودي شوب" BodyShopو"باتاغونيا" Patagoniaفي بناء قاعدةٍ جماهيريةٍ مخلصة من خلال التزامها بمبادئ الاستدامة والقيم الأخلاقية. وأثبتت هذه العلامات أنّ تحقيق الهدف يمكن أن يحقق مبيعاتٍ حقيقية.
وشهدت أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين تصدّر تحقيق الهدف للحدث. فقد تحدى إعلان "الجمال الحقيقي" من "دوف" (2004) الصور النمطية للجمال، ودافع فيلم الرسوم المتحركة "العودة إلى البداية" Back to the Startمن "شيبوتلي" (2011) عن الزراعة المستدامة، وأثار إعلان "دريم كريزي" Dream Crazyمن "نايكي" (2018)، الذي شارك فيه كولين كايبرنيك ColinKaepernick، جدلاً حاداً، وفي النهاية (فاز بجائزة إيمي) أضاف ما يُقدّر بنحو 6 مليارات دولار إلى قيمة العلامة التجارية.
لم تنجح هذه الحملات بفضل رسائلها فقط، بل لأن الرسالة كانت متوافقة مع هوية العلامة التجارية (على سبيل المثال، لطالما رسّخت شركة نايكي مكانتها كداعمٍ للنشاط الرياضي).
وفي الوقت نفسه، بدأت شركات التكنولوجيا العملاقة تبدو أشبه بالمنظمات غير الحكومية. حيث تَعِدُ بياناتها التأسيسية بـ"ربط العالم" أو "تمكين البشرية". فأصبح وجود غايةٍ اجتماعية توقّعاً عاماً. وفي عام 2019، أعلن مؤتمر الأعمال الأمريكي رسمياً أنّ على الشركات خدمة جميع الأطراف المعنية و ليس فقط أصحاب المصلحة. وقد ساهم هذا في ترسيخ ما أصبح سائدًا بالفعل: حيث أعاد كل قطاع تقريباً صياغة نفسه كعاملٍ للتغيير الإيجابي.
الغرض، والحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات، والقوى الدافعة لرواية "مستقبل أفضل"
نبع جزءٌ كبيرٌ من هذا التحول من تغيّر قيم المستهلكين. حيث أظهر تقريرٌ صدر عام 2020 عن شركة 5Wللعلاقات العامة أنّ 83% من جيل الألفية يريدون من الشركات أن تتوافق مع قيمهم الشخصية، وأنّ 76% يتوقعون من الرؤساء التنفيذيين التحدث علناً عن القضايا الاجتماعية. أمّا جيل Z، وفقاً لأبحاث NIQفي 2024، فهم أكثر انسجاماً مع مفاهيم الاستدامة والإنصاف، ويعتبرون العلامات التجارية امتداداً لهويتهم.
وفي الوقت نفسه، ترسخت أطر الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات (ESG) في استراتيجية الشركات وعلاقات المستثمرين. وكشف استطلاع KPMGلعام 2020 أنّ 96% من أكبر 250 شركة في العالم تنشر تقارير الاستدامة، بزيادة عن 12% فقط في أوائل التسعينيات. يوضح هذا التحول كيف أصبحت سرديات الاستدامة محورية في استراتيجية الشركات.ونتيجةً لذلك، أصبحت فرق الاتصالات مُلِمّةً بلغة البصمة الكربونية، والتأثير الاجتماعي، وقيمة أصحاب المصلحة.
ساهم صعود منصات التواصل الاجتماعي في تعزيز هذه التوجهات. حتى أصبح الصمت على القضايا ذات الصلة يُعتبر تواطؤاً، كما أنّ أي خطوةٍ خاطئة قد تنتشر بسرعةٍ هائلة. في حين تحوّل التوافق الاستباقي مع القضايا إلى استراتيجيةٍ دفاعية، بل ورائجة أحياناً. إضافةً إلى ذلك، انتشرت الحملات التي تُروّج للعمل المناخي، والتنوع، والعدالة الاجتماعية في مختلف القطاعات.
ولا أشك في أنّ الدوافع الداخلية كانت مهمةً أيضاً؛ فمعظم الناس يرغبون في إيجاد معنىً لحياتهم، وهذا يشمل عملهم. وكانت النتيجة توافقاً شبه مثاليٍ للحوافز: فقد وفّرت القضايا المجتمعية مادةً غنيةً للسرد القصصي، ووفرت أقسام التسويق محتوىً جديداً لجذب الجماهير، ووجدت الشركات طريقةً لإضفاء طابعٍ إنساني على صورتها. وبحلول أوائل عشرينيات القرن الحادي والعشرين، أصبحت عباراتٌ مثل "تغيير العالم"، و"من أجل مستقبلٍ أفضل"، و"تحسين الحياة" شائعةً في بيانات المهام والحملات الإعلانية في مختلف القطاعات.
أزمة مصداقية
أسهمت الموجة المتصاعدة للعلامات التجارية ذات البعد الاجتماعي في زيادة الوعي وتحفيز الإصلاح. غير أنّها بدأت تفقد مصداقيتها مع انتشار خطاب صانع التغيير في كل مكان. ووفقاً للدراسة العالمية التي أجرتها "هافاس ميديا" (2021)، أقرَّ 73% من المستهلكين بوجوب قيام العلامات التجارية بدورٍ مجتمعي، إلّا أنّ 71% منهم شكّكوا في جدوى هذه الوعود.
كانت النتيجة تَعمق تلك الفجوة بشكلٍ واضح. فقد وجد "مقياس إيدلمان للثقة 2021" أنّ 53% من المستهلكين يعتقدون أنّ العلامات التجارية "تُجري غسيلاً للثقة" بشكلٍ روتيني، بتقديم نفسها ككياناتٍ مدفوعة بالقيم من دون التزامٍ حقيقي. ولم يقتصر هذا التشكيك على المستهلكين فحسب، بل امتدّ ليشمل قادة الصناعة أنفسهم. فقد حذّر آلان جوب Alan Jope، الرئيس التنفيذي لشركة يونيليفر Unileverآنذاك، من "غسل الوعي" Purpose-washingوالرسائل الاجتماعية الانتهازية ذات المحتوى الضعيف، واصفاً إياها بأنها تهديدٌ للثقة في الصناعة.
ورغم أنّ النوايا قد تكون صادقة، إلّا أنّ رسائل الشركات كثيراً ما تنحدر إلى لغةٍ عامة وعباراتٍ طنانة معاد تدويرها. بل إنّ العديد من الرسائل المؤسسية أصبحت قابلة للتبادل. وقد أدى الإفراط في استخدام عباراتٍ مثل "إحداث فرق" أو "تغيير العالم"، من دون أيّ تفاصيل محددة، إلى إفراغها من مضمونها. وكنتيجة طبيعية لذلك برز جمهورٌ متشائمٌ يتجاهل بشكلٍ متزايد الحملات ذات الأهداف المرجوّة، معتبراً إياها مجرّد ضوضاء تسويقية.
قصة تحذيرية من صناعة التكنولوجيا المتقدمة
لا تقتصر هذه الظاهرة على العلامات التجارية الاستهلاكية. بل امتدت إلى حدٍ أصبحت معه مادةً للسخرية في الثقافة الشعبية. ففي وادي السيليكون التابع لشبكة HBO، على سبيل المثال، تُصرّ كلّ شركةٍ ناشئة في TechCrunch Disrupt، على نحوٍ غريب، على أنّ تطبيقها "سيجعل العالم مكاناً أفضل".
ويُعدّ قطاع الفضاء مثالاً واضحاً على هذه الظاهرة، حيث تتبنّى شركاته - من الناشئة إلى الراسخة - شعار "مستقبل أفضل". غير أنّ الدكتورة إيما غاتي Emma Gatti، الصحفية المتخصصة في مجال الفضاء ومحللة الاتصالات، تشير إلى أنّ هذه اللغة كثيراً ما تنحدر إلى خطابٍ مُصطنعٍ وتجريدي. فبيانات الصحف تُمجّد المهام الريادية، بينما تتعذّر الإجابة عن سؤالٍ جوهري: كيف تتحول هذه التقنيات إلى منفعةٍ مجتمعيةٍ ملموسة؟
ومن واقعِ تجربتي في مجال الاتصالات الفضائية، حيث كنت أواجه صعوبةً دائمة في ترجمة فوائد التقنيات المعقدة إلى لغةٍ ملموسة، أؤكد أنّ نقدي هذا لا ينطلق من إنكار القيمة المجتمعية أو البيئية لحلول الفضاء. فحتى في مجالٍ حافلٍ بالرؤى السامية كهذا، تظلّ المصداقية رهينة الوضوح. ونظراً لأن هذه الفوائد غالباً ما تكون غير مباشرة، أو بعيدة المدى، تُلزمنا المسؤولية بتوخّي الحذر الشديد في كيفية إيصالها، والابتعاد عن التجريد والتملّق، وعدم استعارة العبارات المبتذلة من خطاب الاستدامة الأوسع. وإلّا، فإنّ الرسالة التي تهدف إلى الإلهام ستؤول في النهاية إلى خطابٍ غامضٍ وغير مقنع.
الإلهام مهم، لكن يجب أن يكون متجذراً في الجوهر.
لا تعني إعادة بناء الثقة التخلّي عن الهدف، بل تمتينه في أرض الواقع. ينبغي أن تبدأ العلامات التجارية بشرحٍ واضح لما تقدّمه منتجاتها أو خدماتها من فوائد ملموسة، فقط عندئذٍ يمكنها ربط هذه الفوائد بتأثيرها المجتمعي الأوسع.
وفي هذا السياق، كشفت دراسة إيدلمان (2019) أنّ الثقة في العلامات التجارية، رغم أهميتها، تبقى رهينةً بالأسس التقليدية؛ إذ يعطي المستهلكون الأولوية للجودة والراحة والقيمة مقابل المال. وفي الواقع، إن فشلت الشركة في تلبية هذه المتطلبات الأساسية، فلن تنقذها أيّ أهدافٍ سامية. فالمنتج الجيد، في النهاية، هو حجر الأساس لأي ادعاء ذي مصداقية حول الغاية.
كما يسهم التحديد الدقيق في بناء الثقة؛ حيث تحوّل الأمثلة التفصيلية عن "التغيير" الرسالةَ من تجريدية إلى واقعية. ويظل الاتساق عاملاً محورياً؛ فالانسجام بين أقوال الشركة وأفعالها عبر مختلف قنوات التواصل ومرور الزمن هو ما يعزز المصداقية.
أخيراً، تأتي الشفافية كأحد الركائز الأساسية. فعندما تَصدُق الشركات في الإفادة عن تقدمها في معايير الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية — بما في ذلك الجوانب الصعبة أو البطيئة أو غير المكتملة — تَكتَسِب مصداقيةً أكبر. فالحقيقة المتواضعة، عندما تُعرض بوضوح، تَحظى باحترامٍ يفوق بكثير الوعد النبيل الذي لم يَرَ النور.
الخلاصة: إعادة بناء الثقة من خلال سردٍ قصصيٍّ أكثر صدقاً
انبثقت نزعة "صانع التغيير" من نوايا نبيلة واستراتيجيةٍ ذكية، لكنّ تحوّلها إلى سرديةٍ موحَّدة أفقدها تأثيرها. ولمواجهة هذا التحدي، يتعين على مختصي الاتصال إعادة تقييم أدائهم؛ فبدلاً من الانغماس في الخطاب العام، عليهم التركيز على القيمة الحقيقية التي تقدمها شركاتهم، مع الاعتراف بمناطق القصور فيها.
وفي عصرٍ تتراجع فيه الثقة، تبرز الصراحة كموردٍ استراتيجي. فالناس ما زالوا يتوقعون من الشركات المساهمةَ في حلّ المشكلات العالمية، لكنهم باتوا يطالبون بالأدلة لا بالوعود. هنا يأتي دور التواصل الفعّال في سدّ هذه الفجوة، عبر تقديم البراهين بأساليب واقعية ومقنعة، بدلاً من تكديس الشعارات الجوفاء. فالقدرة على الإلهام لا تزال متاحةً للعلامات التجارية، شرط أن تستند إلى مصداقيةٍ راسخة.
ولتحقيق ذلك، حان الوقت لتطوير هوية "صانع التغيير": بالحدّ من الادعاءات وترسيخ حوارٍ أكثر عمقاً ومباشرة. فالطريق إلى اتصالٍ أفضل يبدأ بتواضعٍ يقرّ بالواقع، ويحترم ذكاء الجمهور.
المؤلّفة كاترينا كازولا
كاترينا كازولا، الرئيسة التنفيذية للاتصالات في شركة دي-أوربيت D-Orbit
البريد الإلكتروني للمؤلف
زيارة الموقع الإلكتروني للمؤلف
https://www.ipra.org/news/itle/itl-640-the-changemaker-trap-rethinking-the-better-future-narrative/
ترجمة وتدقيق صَبَا إبراهيم سعيد
تحذير واجب.
لا يحق نشر أي جزء من منشورات ميديا & PR، أو اختزان مادته بطريقة الاسترجاع، أو نقله على أي نحو، سواء إلكترونياً أو ميكانيكياً أو خلاف ذلك دون الاشارة الى المصدر، تحت طائلة المساءلة القانونية
يرجى التواصل لطلب إذن الاستخدام:
info@ipra-ar.org
اخر المقالات
اخر الاخبار